عظة المطران جورج كساب في قداس الاربعين لمثلث الرحمات البطريرك الكاردينال مار اغناطيوس موسى داود
نجتمع اليوم في رحاب هذه الكنيسة لنرفع الصلوات والابتهالات راحة لنفس المثلث الرحمات، غبطة ونيافة البطريرك الكاردينال موسى الأول داود الذي انتقل إلى الأخدار السماوية.
الكاردينال موسى، هو ابن هذه الرعية وابن هذه القرية البسيطة الطيبة، وابن هذه الأبرشية الوديعة. تَعَرَّفَ على كهنتها وارتشف لُبانَ الطيبة والبساطة والوداعة من هذه الأرض النقية، التقيّة الطاهرة. خَدَمَ فيها كاهناً، مطراناً وأحبَّها وحَمَلَ حُبها أينما كان وأينما وجد.
تَربُطنا معهُ علاقات حميميّة وحياةٌ مليئة بالأحداث والمواقف والقرارات السهلة والصعبة.
وقفت أمام جثمانه الطاهر وانحنيتُ خاشعاً ومصلّياً ومتأمّلاً في كلّ مرحلةٍ من مراحلِ حياتهِ واستعرضتُ حياتَهُ وأصغيتُ إلى كلماتهِ التي كنتُ قد سمعتها منه بمناسباتٍ عديدة.
واسمحوا لي أن أدعوكم اليوم لنصغي إلى صوتهِ العذب يتحدث عن نفسهِ، عن نظرتهِ للحياة والموت، عن تساؤلاته الوجدانية العميقة، عن معنى وجودهِ في هذا الكون الفسيح الذي لا تُعرف أوائلهُ من أواخرهِ.
تعالوا نصغي إلى صوتهِ العذب يتحدثُ عن معنى وعمق الرسالة التي كلّفهُ بها الله ليحملها إلى العالم.
فيقول:” كنت أتأمّل في سرِّ الحياة وأغوص في الماضي والمستقبل وأسبح في هذا الكون وفي مصير المليارات من الناس الذين عاشوا على وجه الأرض، وعلى قيام ممالك وظهور حضارات، وكنت أرى أن الكون قد وجِدَ قبلي وبدوني وأنه سيبقى بعدي وبدوني، وما أنا في هذا الكون سوى حبةُ رملٍ ضائعة في هذا الوجود………….
ما هو دوري؟ ما هي مكانتي فيه؟ وهل وجودي لا يُقدِّم ولا يؤخِّر في عمر الزمان؟”
إن رؤيته الإيمانية العميقة الشفافة جعلتهُ يُجيب على هذه الأسئلة ويكتشف قيمة الشخص البشري. فكلّ إنسان يولد ويموت يحمل رسالة ويحقق دعوة….
إننا لم نولد صدفةً ولا قضاءً وقدراً، بل لأن وجودَنا قبل أن نعيشَهُ أي قبل أن نوجد في هذه الحياة كان موضوع اختيار الله وحبّه، وبالتالي كنّا نعيش منذ الأزل في فكر الله وقلبهِ، ويعود الكاردينال ويتساءل: ماهي دعوتي ورسالتي في هذه الحياة….؟
ماذا يريد مني الرب…؟ ماذا ينتظرُ مني…؟ ماهي رسالتي…؟ وبينما هو يغوصُ في هذه التأملات الوجدانية ويبحث ويفتش عن هويتهِ وعن معنى وجوده وعن عمق رسالته، يهتدي إلى الحوار الذي دارَ بين يسوع وبطرس.
” أتحبني يا بطرس أكثر من هؤلاء؟ “
ومن هنا اكتشف أن الحياة دعوة حب، بهذه الرؤية اكتشف أن الحياة جميلة لأن الله خلقنا فيها ودعانا أن نفجّر الحب الإلهي الكامن فينا فالحياة رغمَ كلِّ غموضها وسريتها وظلماتها ومشاكلها ولامعقوليتها تستحق أن تُعاش بفرح وأمل ورجاء وحب.
وقد ركّز غبطتُهُ على دعوة الحب، لا بل أكثر من ذلك، فكأنه كان يصغي دائماً إلى صوت المسيح الذي يقول له: ” أتحبني يا موسى أكثر من هؤلاء؟”
ويدرك صاحب الغبطة والنيافة بأن الجواب ليس بسيطاً ولا يقتصر على كلمة نعم أو لا، فالجواب هو مشروع حياة. ننجح ونفشل، ولكن المهم أن يبقى هذا السؤال هو هاجسٌ بالنسبةِ لنا، حتى إذا ما ابتعدنا عن دعوة الحب نعود لنَقِفَ من جديد أمام جدار الزمن ونفحصَ ضميرنا ونجدّد إيماننا بدعوة الحب ونجيب بكلِّ ثقة:” نعم يارب أنت تعلم بأني أحِبُك “.
ومن هنا أدعوكم أن نتوقف على كلِّ محطةٍ في مسيرةِ غبطة البطريرك الكاردينال، لنكتشف دعوة الحب الذي تحدث عنها غبطته. تعرفنا عليه كاهناً ملتزماً وترك أطيب الذكريات في قلوبِ أبناء رعيتهِ ومازال أبناء حمص يسمّونه بـ”أبونا موسى”. تعرفنا عليه مطراناً في القاهرة وحمص، وعرفنا فيه الشخص المؤمنِ برسالته والمتّكل على ربه فهو رجل الصلاة ورجل الإيمان المنفتح الذي ساعدَهُ أن يرى وجه الله في كلِّ إنسانٍ، بغض النظر عن انتمائهِ الإجتماعي والديني والمذهبي، وعرفناه رجلَ النظام بإمتياز، من خلال عمله وعلاقاتهِ وأوراقهِ ورسائلهِ ومشاريعه ولقد تعلّمنا من مدرستهِ حب النظام والدقّة والشفافية. تعرفنا عليه بطريركاً أحب الكنيسة وكان يرى فيها علامة أملٍ ورجاء في هذا العالم. تعرفنا عليه رئيس مجمع الكنائس الشرقية، ودخلَ إلى الفاتيكان بزيِّهِ الشرقي، يحملُ سحر الشرق ووداعتَه وبساطتَه وطيبتَهُ، وإن أنسى فلا أنسى يومَ سمعتُ الناس يتساءلون من هذا القادم من الشرق؟؟
وكم تهتُ يومها فخراً وعزاً، بأن هذا القادم من الشرق هو ابن هذه القرية الطيبة، وهو ابن هذه الأبرشيّة وهو ابن سوريا التي من ثدييها، أنطاكيا ودمشق، ارتشف العالم لُبَانَ الفضيلة والأخلاق والإيمان الواعي والناضج ومن أبجديتها تعلّم العالم الكتابة والقراءة، ويومها انتابني شعورٌ غريب بأن العاصي بدأ من جديد يصب في نهر التيبر. ولن أنسى ماحييت تلك اللحظات التي عشتُ فيها نشوة الفرح والظفر والفخر بأن أرى ابن بلدي يساهم في إدارة كنيسةِ العالم.
لقد أحب الكنيسة والكنيسة الجامعة وخَدَمَها بكلِّ إيمان وبكل ثقة وبدون أن يميز بين كنيسة وكنيسة، وهنا لا بد من أن أفضح سرّاً كبيراً لكي أبرهن عن نزاهتهِ ونظافتهِ وشموليته، هذا السرّ يتجلّى في عدم انحيازه إلى أبرشيته وفي عدم تخصيصها أو تمييزها عن غيرها فكان ” كُلّاً للكل ” ليربح الكل.
فرجاؤنا وأملنا يا إخوتي، أن كلَّ هذه المواقف التي عدّدناها بمصداقيّة، هي كافية ليجيب موسى، نعم يا رب رغم كل ضعفي وأخطائي وذنوبي فأنت وحدك يا رب تعلم بأني أحبك. آميـــــــن.