دير مار موسى الحبشي في سوريا ينتظر زواره بعد سنوات من العزلة
بعدما ضاق طيلة عقود بالزوار وشكّل ملتقى لحوار الأديان، ينتظر دير مار موسى الحبشي الواقع في منطقة صحراوية نائية شمال دمشق زوارًا افتقدهم جراء عزلة فرضتها سنوات الحرب وطبيعة موقعه الجغرافي.
ويقول الأب جهاد يوسف، رئيس الدير الأثري الذي شُيّد في القرن السابع الميلادي على أنقاض برج روماني، لوكالة فرانس برس “مشتاقون لعودة الناس، ونرغب برؤيتهم مجدداً بيننا وهم يصلّون ويتأمّلون، لعلّهم يجدون في هذا المكان مساحة للهدوء والصمت والتفكّر”.
خلال سنوات الحرب، لم تلحق بالدير القريب من مدينة النبك والواقع على بعد حوالى مئة كيلومتر شمال العاصمة، أي أضرار مادية مباشرة. لكنّ الضرر المعنوي كان كبيرًا مع اختفاء الأب الإيطالي باولو دالوليو الذي يعود له الفضل في ترميم الدير عام 1982 وتجديد الحياة الرهبانية فيه، في مدينة الرقة (شمال) صيف 2013. كذلك، تعرّض رئيس الدير السابق الأب جاك مراد للخطف لمدة أشهر عام 2015.
يضمّ الدير الذي يفتقد بناؤه لأي شكل من أشكال البذخ أو الزخرفة، كنيسة تعود الى القرن الحادي عشر وفيها أيقونات وجداريات أثرية وكتابات باللغات العربية والسريانية واليونانية، بينها عبارة “بسم الله الرحمن الرحيم” و”الله محبة”.
في عام 2010، وصل عدد زوار الدير الى ثلاثين ألفًا، قبل أن تنقطع الحركة تماماً إثر اندلاع النزاع في سوريا في 2011. أما اليوم، فيقيم في الدير المؤلف من ثلاث طبقات ويضم غرفًا للزوار ومكتبة ضخمة ومزرعة للطيور، راهبين وراهبة مع شابين يختبران حياة الرهبنة، يأكلون مما يزرعون أو يحصلون عليه ويشربون من بئر مجاورة. ويقصد الدير بين الحين والآخر رهبان من أديرة أخرى.
عند ساعات الصباح الأولى، يخرج رئيس الدير إلى ساحة مطلة على الغرف المحفورة في الجبل، وينادي الموجودين للانضمام إلى الرهبان في تناول الفطور. ويقول يوسف “نحن هنا في دير بسيط يفتقر للكماليات. لا تتوفّر تغطية إنترنت أو هاتف، ويُفسح الابتعاد عن صخب المدينة”.
صورة عامة لدير مار موسى الحبشي القديم، بالقرب من منطقة النبك، شمال العاصمة دمشق
“اختبرنا الخوف”
لم تبق المنطقة المحيطة بالدير بمنأى عن الحرب. ففي عام 2013، وقعت معارك عنيفة في مدينة النبك الوقعة على بعد 16 كيلومتراً عن الدير الذي سرعان ما أصبح تحت مرمى نيران تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على ريف حمص الشرقي المجاور في الفترة الممتدة بين العامين 2015 و2017.
ويستعيد رئيس الدير تلك المرحلة بالقول “كنا قلقين للغاية. خشينا من الخطف أو القتل في أي لحظة، لا سيما بعد وصول تنظيم داعش إلى بلدة القريتين وخطف مسيحيين منها” إثر سيطرتهم عليها عام 2015.
ولا تفارق ذكرى الأب باولو قاطني الدير خصوصًا أنه جعل من الدير مقصدًا للزوّار والمصلّين، ومركزًا للحوار والتلاقي بين الأديان طيلة نحو ثلاثة عقود عرف فيهما المكان عصره الذهبي.
إثر اندلاع النزاع، عرف الأب باولو بعلاقته المتينة مع ناشطي المعارضة السورية، واعتماده مواقف حازمة ضد قمع التظاهرات الاحتجاجية، ما عكّر علاقته مع دمشق. وطلبت منه سلطات كنيسته مغادرة سوريا. فامتثل لطلبها قبل أن يعود لاحقًا الى مدينة الرقة في تموز 2013 ويتوجّه الى أحد مقرات تنظيم الدولة الاسلامية الذي كان يُعرف حينها باسم “دولة العراق والشام الاسلامية”، للمطالبة بإطلاق سراح ناشطين معارضين. واختفى اثره منذ ذلك الوقت.
ويقول يوسف “خطفه +داعش+ على الأرجح. لا يوجد لدينا أي خبر أكيد عن حياته أو موته”، مؤكداً أنه “لم يتواصل أحد معنا بشأنه من أجل فدية أو أي مطالب أخرى”. ويضيف “اختبرنا الخوف بكل أنواعه إلى جانب العزلة التي منعت وصول الناس إلينا”. وزاد تفشي فيروس كورونا خلال العامين الأخيرين الوضع سوءًا.
“فسحة للتنفس”
بعد زوال أسباب العزلة، أعلن الدير الشهر الحالي إعادة فتح أبوابه أمام الزوار الذين لطالما تكبّدوا عناء تسلّق 300 درجة لبلوغه، بسبب موقعه على تلة صخرية وعرة. وتفرض طبيعة الدير وخصوصية موقعه سكينة لا مثيل لها. ويتردد صدى كل كلمة أو صوت يصدر في أنحائه.
ويوضح الراهب يوسف الحلبي (48 سنة) لوكالة فرانس برس “خلا الدير من الزوار تقريبًا. صرت أبحث عن طريقة أملأ بها وقتي الطويل (..) إذ مرّت سنوات كان عدد الزوار فيها صفرًا”.
بعد انتهائه من صلاة الصباح اليومية أو بعد جلسة حوار في غرفة بسيطة علقت على جدرانها أيقونات ملونة، يتوجه الراهب ذو اللحية البيضاء الى مغارة قريبة يصنع فيها الشمع. ويشغل نفسه أحياناً بالزراعة.
ويأمل الراهب الذي اختار طريق الرهبنة قبل 16 عامًا وكرّس سنواته الأولى للعبادة وخدمة الزوار أن يقصد الناس الدير مجددًا “ليشاركوننا طريقة حياتنا”. ويقول “هنا فسحة للتنفّس بعيدًا عن الضجيج والضوضاء”.