أخبار الأهل والأحبة

محاضرة للمطران يوحنا جهاد بطاح في دير الآباء اللعازريين لجميع الرهبنات الرجالية والنسائية بدمشق.

الحياة الرهبانية عمومًا هي ظاهرة عالميّة نجد أثرها عند أغلب الشعوب والأديان. لا شك أنّ المسيحية لم تتفرّد بهذه الظاهرة، بل تبنّتها بصورة عفويّة كسائر الأديان. أمّا عند الإنسان المسيحي من توق إلى مثاليّة تصبّ في شخص يسوع المسيح، الطريق والحق والحياة المؤدّي إلى الآب الأزلي، والهدف الأمثل.

لن أتكلّم عن ظاهرة الحياة المسيحية في الأديان غير المسيحية، وإنما فقط عن جذور الحياة الرهبانية في المسيحية ونشأتها.

بعض الأشخاص والشواهد في الكتاب المقدّس أمثال إيليا ويوحنا المعمدان…

هناك عاملين أساسيين عاشتهما الكنيسة الأولى كانا في أساس بعث الحياة الرهبانيّة في المسيحيّة.

  • العامل الأوّل هو تكريم البتولية وتكريسها في سبيل نشر الملكوت، وهذا ما يفسّر وجود عذارى بتولات وأرامل تقيّات تكرّسن لخدمة الكنيسة والقريب، بالإضافة الى بعض مظاهر التقشّف والبتولية لدى رجال كرّسوا ذواتهم للبشارة.
  • العامل الثاني هو عامل الاستشهاد الناجم عن الاضطهاد الذي شنّه الرومان على المسيحيين الذين بذلوا ذواتهم حتّى الموت، متمثلين بالمسيح المصلوب.

قيّد لهذا الوضع المؤلم أن يتغيّر بعد معاهدة ميلانو سنة 311، توقفت الاضطهادات ضد الكنيسة، يعود الفضل في تحقيق هذه الحقبة الى الامبراطور قسطنطين ووالدته القديسة هيلانة. وأصبحت المسيحية بعد أعوام من المعاهدة دين الدولة الرسمي. هذا الوضع الطارئ شجع أعدادًا كبيرة من الوثنيين على دخول الكنيسة بعد تقبل سرّ العماد المقدّس بدون الاستعداد الكافي لذلك. دخل الوثنيون ودخلت معهم عاداتهم الوثنية مما عرّض الكنيسة لسلبيّات عديدة أهمها الفتور في عيش مثالية الإنجيل والتبشير بها. فتخلى العديد من المسيحيين عن العيش في الفتور المميت، وذهبوا بعيدًا عن المجتمع، بحثًا عن إطار أخر يتلاءم أكثر مع تطلعاتهم الروحيّة. فكانت حياة الترهّب، والموت عن العالم، أو الشهادة البيضاء، البديل عن الشهادة الحمراء.

        هكذا كانت انطلاقة الحياة الرهبانيّة في الكنيسة. وقد أخذت، بعد انطلاقتها، طرق شتّى لعيشها بحسب مواقعها والبلدان التي نشأت فيها.

ما هي التقاليد في الكنيسة التي أعطت طرقًا رهبانية.

تقاليد أربعة في الكنيسة أعطت طرقًا رهبانية عديدة ومتنوعة.

أولاً التقليد المصري التوحدي مع القديس أنطونيوس الكبير (251- 356)، وهناك الطريقة الجماعية على يد القديس باخوميوس سنة 323، وهناك طريقة تتبنى الطريقتين السالفتين مع الانبا باكول وشنودى.

ثانيًا: التقليد السرياني: في القرن الرابع مع مارون الناسك وسمعان العمودي وإبراهيم القورشي وغيرهم…

تتميّز الرهبانية السريانية الانطاكية بالتقشف الصارم وبالاضطلاع بأعمال الرسالة والتبشير.

وهذه الميزة المزدوجة للحياة الرهبانية استمرت في الكنيسة الإنطاكية عامّة وفي جميع البلدان والعصور، “صلاة وعمل”.

ثالثًا: التقليد الكابدوكي البيزنطي وفيه الطريقة الباسيلية، نسبة إلى القديس باسيليوس أسقف قيصرية الكابدوك في اسيا الصغرى (تركيا حاليًا).

رابعًا: التقليد الروماني يقال إن اول من مارس الحياة الرهبانية في روما هو القديس إيرونيموس، ويعتبر القديس مبارك في القرن السادس هو مؤسس الحياة الرهبانية اللاتينية.

القيم الرهبانية المسيحية:

  • تحديد كلمة راهب: لغويًا، الراهب اسم فاعل من فعل رهب أي خاف وفزع. أي أن الراهب من خاف على خلاص نفسه وخلاص الاخرين، فعاش متميّزًا عن العالم ومن أجل العالم. يرادف هذه الكلمة بالعربية: المتوّحد، الناسك والمتعبّد.

فالراهب هو من توّحد مع ذاته، أي انتصر على ميوله المتعدّدة، وأصبح بسيطًا خاليًا من كلّ تعقيدات هذه الدنيا، فيسمو إلى الاتحّاد بالله.

ويقول توادوروس الستودي أحد آباء الكنيسة في الراهب أنّه الشخص الذي لا يتطلّع سوى إلى الله وحده، ولا يتوق سوى إلى الله وحده، ولا يرغب إلاّ خدمة الله وحده، فيصبح بذلك مصدر سلام للآخرين.

ا) القيم الرهبانية: أولاً إنّ ما يميّز الرهبان المسيحيين عن غير المسيحيين هو إتباع المسيح والتتلمذ له والاقتداء به.

ثانيًا الحياة الأخوية المشتركة وهذا واضح في حياة الرسل المسيحيّين الأوّلين (أعمال الرسل 2/44).

ثالثًا: التشبه بالشهداء إنّ حياة الترهب شهادة للمسيح بيضاء، جاءت لتحّل مكان الشهادة الحمراء التي طبعت الكنيسة في أجيالها الثلاثة الأولى.

رابعًا: الصراع تحت لواء المسيح: تظهر قوانين القدّيس مبارك الحياة الرهبانيّة وكأنّها خدمة عسكرية وصراع تحت لواء المسيح.

خامسًا الراهب أو الراهبة يعيش في غربة عن هذه الدنيا، وله في ذلك أمثلة عديدة مستقاة من الكتاب المقدّس.

  • شخص إبراهيم أبو المؤمنين: “قال الرب لأبرام: انطلق من أرضك وعشيرتك وبيتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك” (تك 12/ 1).
  • شخص موسى التائه في سيناء هاربًا من فرعون مصر (خر 2/ 15) والذي قاد شعب الله في البريّة أربعين سنة لينقل به من أرض العبودية في مصر إلى أرض الميعاد في كنعان (خر 13/ 17- 22).
  • شخص إيليا النبي الذي لجأ إلى حوريب والكرمل حيث التقى بالله (1 مل 17- 19).
  • وفي العهد الجديد نجد يوحنّا المعمدان مثالاً حيًا للعيش في الغربة والرحيل إلى البريّة في جبال اليهودية (متى 3/ 1- 4)؛ مر 1/ 1- 8).
  • سادسًا السهر في انتظار المجيء الثاني: ولنا في ذلك مثال من العهد الجديد: الخادم الأمين الذي يسهر حتى مجيئ سيّدة “فاسهروا إذا لأنكم لا تعلمون أي يوم يأتي ربكم” (متى 24/ 42).
  • سابعًا وأخيرًا عيش الأبدية في الحاضر: هذا يعني أنّ الراهب “الخادم الأمين” المتيقّظ دومًا لمجيء سيده، يتمرّس في حياته هنا على الأرض على الحياة الثانية التي سوف يحياها مع المسيح مكافأة له على أمانته وطول انتظاره.

ب) القيم العملية والحياتية: هي الإطار المسيحي الذي يسعى به الراهب إلى بلوغ الكمال المسيحي، ويحقّق رويدًا رويدًا تلك القيم الروحية المثالية المذكورة سابقًا. هذه القيم عديدة وقد نحصرها في عنوان واحد: المشورات الإنجيلية. هذه المشورات “تؤهل من يعتنقها أن يشهد في العالم بأنّ الزواج والمادة والحريّة الشخصيّة قيم سامية لكونها عطايا من الله ووسائل من طبيعتها أن تسوق إلى الاتحاد به. وما التخلي عنها سوى علامة الحياة الجديدة والقيامة المرجوّة، ومجد ملكوت السماء” (من قوانين الرهبنة اللبنانية المارونية 34).

هذه المشورات هي: الطاعة، العفة، الفقر، الصلاة، العمل، الرسالة، والحياة المشتركة.

الخاتمة

الرهبانيات وبسبب تطوّر كل شيء في الكنيسة والعالم وخاصة التطور السريع لوسائل التواصل وصدور قوانين الشرع العام الجديد عام 1991، ممّا دعت الحاجة إلى إعطاء الحياة الرهبانية دفع جديد من خلال تجديد الأنظمة، وإقامة لقاءات دورية في كل رهبنة لتبحث وتتدارس بلقاءاتها المتلاحقة قوانين ورسومًا جديدة، ومن صنعها.

فلا بد من ثورة بيضاء هادئة تعيد النشاط والحيوية لجميع رهبانياتِنا و من نهضة روحية تعتمد العلم في دراسة أوضاعنا.

فالكلّ يشعر بالألم لنقص الدعوات الرهبانية وخاصة النسائية، وعلينا ألاّ نجلد أنفسنا، فليس دائمًا الأسباب تكمن عندنا. فالحالة العامة وخاصة الهجرة جعلت من الأبناء والبنات يلتحقوا بعائلاتهم.

فنحن في عهد الهجرة والتهجير والنكبات…. والشكر لكم للصمود ومساعدة عائلاتنا المنكوبة. فمقابل العمران في أديار كثيرة، نرى أديارًا دمّرت عن بكرة أبيها، وأديار أصيبت برهبانها وممتلكاتها ونحن مثلاً فقدنا راهب شهيد هو الاب فرانسوا مراد في اليعقوبية وراهب خطف واُطلق سراحه هو الأب جاك مراد وراهب لا نعرف مصيره هو الأب باولو دالوليو والرهبنة اليسوعية ايضًا فقدت الشهيد الأب فرانس.

فقد عشتم مستنفرين مدة سبع سنوات لمساعدة الناس ومازال وضع بعض الأماكن كالجزيرة وحلب في حالة استنفار.

وأتت أخيرًا ازمة الدولار لتقضي على بعض احلامنا بالخروج من الازمة وتوقيف نزيف الهجرة، فلا نحن قادرين على مساعدة أبنائنا وتأمين الحماية لهم ولا نرغب لهم بالرحيل.

وسط كلّ هذا لا بدّ للراهب والراهبة أن يكونوا علامة رجاء في هذا الزمن العصيب، فالروح القدس هو الذي يقود خطواتنا ويلهمنا دائمًا ما فيه خير حياتنا الرهبانية.

الرجاء فضيلة قليلاً ما نتكلّم عنها أو نعيشها… لكن هي سرّ صمود الإنسان…

الرجاء هو القدرة التي بها نتوق إلى الهدف الذي نحن موجودون لأجله…

وكما يقول القديس أوغسطينوس: الرجاء هو الوثوب في المجهول والاتكال كليًا على الله.

بقلم المطران يوحنا جهاد بطًاح